سورة القصص - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)}
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} أي وصل إليه وورد. الورود عنى الدخول وعنى الشرب وليس شيء منهما مرادًا والمراد اء مدين بئر كانوا يسقون منها، فهو مجاز من إطلاق الحال وإرادة المحل {وَجَدَ عَلَيْهِ} أي فوق شفيره ومستقاه {أُمَّةً مّنَ الناس} أي جماعة كثيرة مختلفي الأصناف، ويشعر بالقيد الأول التنوين، وبالثاني من الناس لشموله للأصناف المختلفة وهي فائدة ذكره، وقيل فائدته تحقير أولئك الجماعة وأنهم لئام لا يعرفون بغير جنسهم أو محتاجون إلى بيان أنهم من البشر {يُسْقَوْنَ} الظاهر أنهم كانوا يسقون مواشي مختلفة الأنواع عنى أن منهم من كان يسقى إبلا ومنهم من كان يسقى غنمًا وهكذا، وتخصص سقيهم بنوع يحتاج إلى توقيف {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} أي في مكان أسفل من مكانهم، وقيل من قربهم أو من سواهم أو مما يلي جهته إذا قدم عليهم وإلى هذا الأخير ذهب ابن عطية حيث قال: المعنى ووجد من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة {امرأتين} اسم إحداهما قيل ليا وقيل عبرا وقيل شرفًا، واسم الأخرى قيل صفوريًا وقيل صفوراء وقيل صفيراء، وفي الكشاف صفيراء اسم الصغرى واسم الكبرى صفراء {تَذُودَانِ} كانتا تمنعان غنمهما عن الماء خوفًا من السقاة الأقوياء قاله ابن عباس وغيره، وقيل تمنعان غنمهما عن التقدم إلى البئر لئلا تختلط بغيرها. وحكى ذلك عن الزجاج. وقال قتادة: تمنعان الناس عن غنمهما. وقال الفراء: تحسبان غنمهما عن أن تتفرق، وفي جميع هذه الأقوال تصريح بأن المذود كان غنمًا، والظاهر أن ذلك عن توقيف،، وقيل تذودان عن وجوههما نظر الناظرين لتسترهما وهذا كما ترى. {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} أي ما مخطوبكما ومطلوبكما مما أنتما عليه من التأخر والذود ولم لا تباشران السقي كغيركما؟ وأصل الخطب مصدر خطب عنى طلب ثم استعمل عنى المفعول. وفي سؤاله عليه السلام إياهما دليلعلى جواز مكالمة الأجنبية فيما يعني.
وقرأ شمر {مَا خَطْبُكُمَا} بكسر الخاء، قال في البحر: أي من زوجكما؟ ولم لا يسقى هو؟. وهذه قراءة شاذة نادشة اه. ولا يخفى ما فيه وإباء الجواب عنه. وقال بعضهم: الخطب فيها عنى المخطوب والمطلوب كما في القراءة المتواترة، ونظيره الحب بكسر الحال المهملة عنى المحبوب {قَالَتَا لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعاء}.
أي عادتنا أن لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم بعد ريها عن الماء عجزًا عن مساجلتهم لا أنا لا نسقي اليوم إلى تلك الغاية. وقرأ ابن مصرف {لاَ نَسْقِى} نضم النون من الاسقاء. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والحسن وقتادة، والعربيان: ابن عامر، وأبو عمرو {يُصْدِرَ} بفتح الياء وضم الدال أي حتى يصدر الرعاة بأغنامهم.
وسأل بعض الملوك عن الفرق بين القراءتين من حيث المعنى. فأجيب بأن قراءة يصدر بفتح الياء تدل على فرط حيائهما وتواريهما من الاختلاط بالأجانب. وقراءة يصدر بضم الياء تدل على إصدار الرعاة المواشي ولم يفهم منها صدورهم عن الماء. وقرئ بزاي خالصة وبحرف بين الصاد والزاي. وقرئ الرعاء بضم الراء والمعروف في صيغ الجمال فعال بكسر الفاء كما في قراءة الجمهور، وأما فعال بالضم فعلى خلاف القياس لأنه من أبنية المصادر والمفردات كنباح وصراخ، وإذا استعملفي معنى الجمع كما في القراءة الشاذة فقيل هو اسم جمع لا جمع وقيل إنه جمع أصلى وقيل إنه جمع ولكن الأصل فيه الكسر، والضم فيه بدل من الكسر كما أنه بدل من الفتخ في نحو سكارى، والوارد منه في كلام العرب ألفاظ محصورة ذكرها الخفاجي في شرح درة الغواص والمشهور منها على ما قال ثمانية، وقد نظمها صدر الأفاضل لا الزمخشري على الأصح بقوله:
ما سمعنا كلما غير ثمان ***
هي جمع وهي في الوزن فعال فرباب وفرار وتؤام، وعرام وعراق ورخال وظؤار جمع ظئر وبساط جمع بسط هكذا فيما يقال وذهب أبو حيان إلى أن الرعاء في قراءة الجمهور ليس بقياس أيضًا قال: لأنه جمع راع وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة كفاض وقضاة وما سوى جمعه هذا فليس بقياس، وقرأ عياش عن أبي عمرو الرعاء بفتح الراء وهو مصدر أقيم مقام الصفة فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه، وجوز أن يكون مما حذف منه المضاف أي أهل الرعاء {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ابداء منهما للعذر له عليه السلام في توليهما للسقى بأنفسهما كأنهما قالتا: إنا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم وما لنا رجل يقوم بذلك وأبونا شيخ كبير السن قد أضعفه الكبر فلابد لنا من تأخير السقي إلى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء، وذكر بعضهم أنه عليه السلام أخرج السؤال على ما يقتضيه كرمه ورحمته بالضعفاء حيث سألهما عن مطلوبهما من التأخر والذود قصدًا لأن يجاب بطلب المعونة إلا أنهما لجلالة قدرهما حملتا قوله على ما يجاب عنه بالسبب وفي ضمنه طلب المعونة لأن إظهارهما العجز ليس إلا لذلك، وقيل: ليس في الكلام ما يدل على ضعفهما بل فيه أمارات على حيائهما وسترهما ولو أرادتا إظهار العجز لقالتا لا نقدر على السقي ومعنى وأبونا شيخ كبير أنا مع حيائنا إنما تصدينا لهذا الأمر لكبره وضعفه وإلا كان عليه أن يتولاه، ولعل الأولى أن يقال: إنهما أرادتا إظهار العجز عن المساجلة للضعف ولما جبلا عليه من الحيء، والكلام وإن لم يكن فيه ما يدل على ضعفهما فيه ما يشير إليه لمن له قلب، ويفهم من بيان معنى جوابهما المارآنفًا أن جملة أبونا شيخ كبير عطف على مقدر، وجوز أن تكون حالًا أي نترك السقي حتى يصدر الرعاء والحال أبونا شيخ كبير وأبوهما عند أكثر المفسرين شعيب عليه السلام.
{فَانٍ قِيلَ} كيف ساغ لبني الله تعالى أن يرضى لابنتيه بسقي الغنم. فالجواب: أن الأمر في نفسه ليس حظور فالدين لا يأباه، وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك والعادات متباينة فيه وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصًا إذا كانت الحال حال ضرورة، وذهب جماعة إلى أنه ليس بشعيب عليه السلام فأخرج سعيد بن منصور. وابن أبي شيبة. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة أنه قال كان صاحب موسى عليه السلام اثرون بن أخي شعيب النبي عليه السلام، وحكى هذا القول عنه أبو حيان أيضًا إلا أنه ذكر هارون بدل أثرون وحكاه أيضًا عن الحسن إلا أنه رذكر بدله مروان، وحكى الطبرسي عن وهب وسعيد بن جبير نحو ما حكاه أبو حيان عن أبي عبيدة، وأخرج ابن المنذر عن ابن مجريج أنه قال بلغني أن أبا الأمرأتين ابن أخي شعيب واسمه رعاويل وقد أخبرني من أصدق أن اسمه في الكتاب يثرون كاهن مدين والكاهن حبر، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال الذي استأجر موسى عليه السلام يثرب صاحب مدين، وجاء في رواية أخرى عنه أن اسمه يثرون وهو موافق لما نقل عن الكتاب من الاسم ولم يذكر في هاتين الروايتين نسبته إلى شعيب عليه السلام فيحتمل أن المسمى بما فيها ابن أخيه ويحتمل أنه رجل أجنبي عنه فقد قيل: أن أباهما ليس ذا قرابة من شعيب عليه السلام وإنما هو رجل صالح، وحكى الطبرسي عن بعضهم أن يثرون اسم شعيب وقد أخبرني بعض أهل الكتاب بذلك أيضًا إلا أنه قال هو عندنا يثرون بدون نون في آخره والذي رأيته أنا في الفصل الثاني من السفر الثاتي من توراتهم ما ترجمته ولما سمع فرعون بهذا الخبر أي خبر القتل طلب أن يقتل موسى فهرب موسى من بين يديه وصار إلى بلد مدين وجلس على بئر ماء وكان لإمام مدين سبع بنات فجاءت ودلت وملأت الأحواض لسقي غنم أبيهن فلما جاء الرعاة فطرد وهن قام موسى فأغاثهن وسقى غنمهن فلما جئن إلى رعوايل أبيهن قال ما بالكن أسرعتن المجيء اليوم الخ، وقد أول الفصل الثالث منه ما ترجمته وكان موسى يرعى غنم يثرو حمية أمام مدين إلخ فلا تغفل، وفي البحر عند الكلام في تفسير {إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ} [القصص: 25] قيل: كان عمها صاحب الغنم وهو المزوج عبرت عنه بالأب إذ كان ثابته والظاهر أن هذا القائل يقول: إنهما عنتها بالأب هنا العم، وأنت تعلم أن هذا وأمثاله مما تقدم مما لا يقال من قبل الرأي فالمدار في قبول شيء من ذلك خبر يعول عليه والأخبار التي وقفنا عليها في هذا المطلب مختلفة ولم يتميز عندنا ما هو إلا رجح فيما بينها وكأني بك تعول على المشهور الذي عليه أكثر المفسرين وهو أن أباهما على الحقيقة شعيب عليه السلام إلى أن يظهر لك ما يوجب العدول عنه.


{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)}
والظاهر من قوله تعالى: {فسقى لَهُمَا} أنه عليه السلام سارع إلى السقي لهما رحمة عليهما ومنشأ الترحم كونهما على الذود وكون الأمة من الناس على السقي ولهذا ذهب الشيخ عبد القاهر وصاحب الكشاف إلى أن حذف المفعول في يسقون {وتذودان} [القصص: 23] للقصد إلى نفس الفعل وتنزيله منزلة اللازم أي يصدر منهم السقي ومنهما الذود وقال: إن كون المسقي والمذود إبلًا أو غنمًا خارج عن المقصود بل يوهم خلافه إذ لو قيل: أو قدر يسقون إبلهم وتذودان غنمهما لتوهم أن الترحم عليهما ليس من جهة أنهما على الذود والناس على السقي بل من جهة أن مذودهما غنم ومسقيهم إبل بناء على أن محط الفائدة في الكلام البليغ هو القيد الأخير وخالفهما في ذلك السكاكي فذهب إلى أن حذف المفعول من يسقون وتذودان لمجرد الاختصار والمراد يسقون مواشيهم وتذودان غنمهما وكذا سائر الأفعال المذكورة في هذه الآية، واختاره العلامة الثاني فقال: إن هذا أقرب إلى التحقيق لأن الترحم لم يكن من جهة صدور الذود عنهما وصدور السقي من الناس بل من جهة ذودهما غنمهما وسقي الناس مواشيهم حتى لو كانتا تذودان غير غنمهما بل مواشيهم وكان الناس يسقون غير مواشيهم بل غنمهما مثلا لم يصح الترحم ووافقه في ذلك السيد السند وقال في تحقيق المذهبين: إن الشيخين اعتبرا المفعول الذي نزل الفعلان بالنسبة إليه هو الإبل والغنم مثلا أي النوعين من المواشي بدون الإضافة كما يدل عليه قولهما إن كون المسقى والمذود ابلًا أو غنمًا إلخ وكل منهما مقابل للآخر في نفسه وجعلا ما يضاف إليه كل في القول أو التقدير المفروض خارجًا عن المفعول من حيث إنه مفعول غير ملحوظ معه فالمفعول عندهما ليس إلا مطلق الإبل والغنم فلو قدر المفعول لأدّى إلى فساد المعنى فإنهما لو كانتا تذودان إبلالهما على سبيل الفرض لكان الترحم باقيًا بحاله لأنه إنما كان لعدم قدرتهما على السقي، والسكاكي نظر إلى أن المفعول هو الغنم المضافة إليهما والمواشي المضافة إليهم وكل واحد منهما يقابل الآخر من حيث إنه مضاف فلو لم يقدر المفعول يفسد المعنى وهذا أدق نظرًا وأصح معنى انتهى، وتعقبه المولى عبد الحكيم السالكوتي بقوله: وفيه بحث لأن عدم التقدير ان قصد به التعميم أي يسقون مواشيهم وغير مواشيهم وتدودان غنمهما وغير غنمهما يلزم الفساد أما إذا قصد به مجرد السقي والذود من غير ملاحظة التعلق بالمفعول كما في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] فلا لأن كون طبيعة السقي والذود منشأ الترحم لا يقتضي أن يكون عند تعلقه فعول مخصوص كذلك حتى يلزم أن يكون سقي غير مواشيهم وذود غير غنمهم محلا للترحم فتدبر، فإن منشأ ما ذكره السكاكي عدم الفرق بين الإطلاق والعموم انتهى، ولا يخفى أنه ينبغي أن يضم إلى طبيعة السقي والذود بعض الحيثيات كحيثية تحقق طبيعة السقي من أقوياء متغلبين وتحقق طبيعة الذود من امرأتين ضعيفتين مستورتين في موضع هو مجتمع الناس للسقي وإلا فالظاهر أن مجرد طبيعة السقي والذود لا تصلح منشأ الترحم.
وقال بعض الأجلة: ترك المفعول في يسقون {ويذودان} [القصص: 23] لأن الغرض هو الفعل لا المفعول إذ هو يكفي في البعث على سؤال موسى عليه السلام وما زاد على المقعصود لكنة وفضول، وأما البعث على المرحمة فليس هذا موضعه فإن له قولهما: {لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23] ومن لم يفرق بين البعثين قال ما قال ورد بأن منشأ السؤال هو المرحمة لحالهما كما صرحوا به فسؤاله عليه السلام للتوسل إلى آعانتهما وبرهما لتفرس ضعفهما وعجزهما ولولاده لم يكن للتكلم مع الأجنبية داع، وقولهما: {لاَ نَسْقِى} إلخ باعث لمزيد المرحمة لقبولها للزيادة والنقص، وتعقب بأنه إنما يتم لو سلم أنه عليه السلام تفرس ضعفهما وعجزهما لأمور شاهدها، وإلا فالذود لا يدل على ذلك إذ يتحقق للضعف ولغيره، وقد نقل الخفاجي كلام جمع من الفضلاء في هذا المقام منه ما ذكرنا عن بعض الأجلة ورده واعترض بما اعترض، ثم قال: وأما ما اعترض به على المرحمة فخيال فاسد ومحط كلامه عليه الرحمة الانتصار لما ذهب إليه الشيخان وقد انتصر لهما، وقال بقولهما غير واحد.
واعترض بعضهم على تقدير المفعول مضافًا بأن الإضافة تشعر بالملك ولا ملك لأحد من الأمة والأمرأتين فإن الظاهر في الأمة أنهم كانوا رعاء والأغلب أن الرعاء لا يملكون، والظاهر أن ما في يد الأمرأتين كان ملكًا لأبيهما، ولا يخفى أن هذا الاعتراض على طرف الثمام، والله تعالى أعلم، هذا والظاهر أنه عليه السلام سقي لهما من البئر التي عليها الناس ويدل عليه ما روي أنه عليه السلام دفعهم عن الماء إلى أن سقي لهما وكذا ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف. وعبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والحاكم. وصححه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: إن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليها أمة من الناس يسقون فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال فإذا هو بامرأتين قال: {ما خطبكما} [القصص: 23] فحدثتاه فأتى الصخرة فرفعها وحده ثم استسقى فلم يستسقي إلا دلوًا واحدًا حتى رويت الغنم لكن هذا مخالف لما يقتضيه ظاهر الآية من أنه عليه السلام حين ورد ماء مدين وجد الأمة يسقون ووجد الامرأتين تذودان وهذا ظاهر في مقارنة وجدانهما لوجدانهم وذودهما لسقيهم ولا يكاد يفهم منه أن وجدانهما بعد فراغهم من السقي كما يقتضيه الخبر فلعل الخبر غير صحيح، وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار وكأن من يقول بصحته يمنع اقتضاء الآية كون وجدان الأمة يسقون ووجدان الامرأتين تذودان في أول وقت الورد فإنه يقال: لما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجب الصيام ووجبت الزكاة مثلًا مع أن وجوب كل ليس في أول وقت الورود فيجوز أن يكون عليه السلام قد وجد أمة يسقون أول وقت وروده وبعد أن فرغوا من السقي ووضعوا الصخرة على البئر وجد امرأتين تذودان فخاطبهما بما خطبكما فكان ما كان ويحمل ذودهما على منع غنمهما عن التقدم إلى البئر لعلمهما أنها قد أطبق عليها صخرة لا يقدرون على رفعها ويتكلف في توجيه الجواب ما يتكلف أو يقول الآية على ظاهرها ويسلم اقتضاءه اتحاد الوجدانين والذود والسقي بالزمان ويمنع أن يكون في الخبر ما ينافي ذلك لجواز أن يكون المعنى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان فلما فرغوا أعادوا الصخرة فإذا بالأمرأتين حاضرتان عنده بين يديه فسألهما فحدثتاه إلخ فما بعد الفراغ من السقي ليس وجدان الأمرأتين تدودان وإنما هو حضورهما بين يديه والكل كما ترى وكأني بك تعتمد عدم صحة الخبر.
وقيل: إنه عليه السلام سقي لهما من بئر أخرى، فقد أخرج عبد بن حميد. وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في خبر طويل أنه عليه السلام لما سأل الامرأتين وأجابتا قال: فهل قربكما ماء؟ قالتا: لا إلا بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر قال فانطلقا فأريانيها فانطلقا معه فقال: بالصخرة بيده فنحاها ثم استقى بهما سجلًا واحدًا فسقى الغنم ثم أعاد الصخرة إلى مكانها {ثُمَّ تولى إِلَى الظل} الذي كان هناك وهو على ما روي عن ابن مسعود ظل شجرة قيل: كانت سمرة، وقيل: هو ظل جدار لا سقف له.
وقيل: إنه عليه السلام جعل ظهره يلي ما كان يلي وجهه من الشمس، وهو المراد بقوله تعالى: {ثُمَّ تولى إِلَى الظل} وهو كشما ترى {فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ} أي لأي شيء تنزله من خزائن كرمك إلى.
{مّنْ خَيْرٍ} جل أو قال: {فَقِيرٌ} أي محتاج وهو خبر إن وبه يتعلق لما، ولما أشرنا إليه من تضمنه معنى الاحتياج عدى باللام، وجوز أن يكون مضمنًا معنى الطلب واللام للتقوية، وقيل: يجوز أَن تكون للبيان فتتعلق بأعني محذوفًا، و{مَا} على جميع الأوجه نكرة موصوفة، والجملة بعدها صفتها، والرابط محذوف، ومن خير بيان لها، والتنوين فيه للشيوع، والكلام تعريض لما يطعمه لما ناله من شدة الجوع، والتعبير بالماضي بدل المضارع في أنزلت للاستعطاف كالافتتاح برب، وتأكيد الجملة للاعتناء، ويدل على كون الكلام تعريضًا لذلك ما أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما سقى موسى عليه السلام للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير إنه يومئذ فقير إلى كف من تمر».
وأخرج سعيد بن منصور. وابن أبي شيبة. وابن أبي حاتم. والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: «لقد قال موسى عليه السلام رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير وهو أكرم خلقه عليه ولقد افتقر إلى شق تمرة ولقد لصق بطنه بظهره من شدة الجوع» وفي رواية أخرى عنه «أنه عليه السلام سأل فلقا من الخبز يشد بها صلبه من الجوع وكان عليه السلام قد ورد ماء مدين» وأنه كما روي أحمد في الزهد وغيره عن الحبر ليتراءى خضرة البقل من بطنه من الهزال وإلى كون الكلام تعريضًا لذلك ذهب مجاهد؛ وابن جبير، وأكثر المفسرين؛ وكان علي كرم الله تعالى وجهه يقول: والله ما سأل إلا خبزًا يأكله، وجوز أن تكون اللام للتعليل وما موصولة ومن للبيان والتنكير في خير لإفادة النوع والتعظيم، وصلة فقير مقدرة أي إني فقير إلى الطعام أو من الدنيا لأجل الذي أنزبته إلى من خير الذين وهو النجاة من الظالمين فقد كان عليه السلام عند فرعون في ملك وثروة وليس الغرض عليه التعريض لما يطعمه ولا التشكي والتضجر بل إظهار التبجح والشكر على ذلك، ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر.
وأنت تعلم أن هذا خلاف المأثور الذي عليه الجمهور، ومثله في ذلك ما روي عن الحسن أنه عليه السلام سأل الزيادة في العلم والحكمة ولا يخلو أيضًا عن بعد. وجاء عن ابن عباس أن الامرأتين سمعتا ما قال فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما فسألهما فاختبرتاه فقال لا حداهما: انطلقي فادعيه.


{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)}
{فَجَاءتْهُ} قيل هي الكبرى منهما وقيل الصغرى وكانتا على ما في بعض الروايات توأمتين ولدت احداهما قبل الأخرى بنصف نهار. وقرأ ابن محيصن {حداهما} بحذف الهمزة تخفيفًا على غير قياس مثل ويلمه في ويل أمه {إِذْ تَمْشِى} حال من فاعل جاءت. وقوله تعالى: {عَلَى استحياء} متعلق حذوف هو حال من ضمير تمشي أي جاءته ماشية كائنة على استحياء فمعناه أنه كانت على استحياء حالتي المشي والمجيء معا لا عند المجيء فقط، وتنكيرًا استحياء للتفخيم. ومن هنا قيل جاءت متخفرة أي شديدة الحياء. وأخرج سعيد بن منصور. وابن جرير. وابن أبي حاتم من طريق عبد الله ابن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال جاءت مستترة بكم درعها على وجهها وأخرج ابن المنذر عن أبي الهذيل موقوفًا عليه وفي رفعه إلى عمر رواية أخرى صححها الحاكم بلفظ واضعة ثوبها على وجهها {قَالَتْ} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية مجيئها إياه عليه السلام كأنه قيل: فماذا قالت له عليه السلام؟ فقيل قالت: {إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} أي جزاء سقيك على أن ما مصدرية ولا يجوز أن تكون موصولة لأن ما يستحق عليه الأجر فعله لا ما سقاه إذ هو الماء المباح وأنسدت الدعوة إلى أبيها وعللتها بالجزاء لئلا يوهم كلامها ريبة. وفيه من الدلالة على كمال العقل والحياة والعفة ما لا يخفى. روى أنه عليه السلام أجابها فقام معها فقال لها امشي خلفي وانعتي لي الطريق فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك ففعلت. وفي رواية أنه قال لها كوني ورائي فإني رجل لا أنظر إلى أدبار النساء ودليني على الطريق يمينًا أو يسارًا، وروى عن ابن عباس. وقتادة. وابن زيد وغيرهم أنها مشت أولًا أمامه فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق ففعلت حتى أتيا دار شعيب عليه السلام.
{فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} أي ما جرى عليه من الخبر المقصوص، فإنه مصدر سمي به المفعول كالعلل {قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} يريد فرعون وقومه، وقال ذلك لما أنه لا سلطان لفرعون بأرضه. ويحتمل أنه قال عن إلهام أو نحوه، واختلف في الداعي له عليه السلام إلى الإجابة فقيل الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أن موسى عليه السلام إنما أجاب المستدعية من غير تلعثم ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر برأيه لا طمعًا بما صرحت به من الأجر، ألا ترى إلى ما أخرج ابن عساكر عن أبي حازم قال: لما دخل موسى على شعيب عليهما السلام إذا هو بالعشاء فقال له شعيب: كل.
قال موسى: أعوذ بالله تعالى. قال: ولم ألست بجائع؟ قال: بلى، ولكن أخاق أن يكون هذا عوضًا لما سقيت لهما وإنا من أهل بيت لا نبيع شيئًا من عمل الآخرة لء الأرض ذهبًا قال: لا والله، ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى عليه السلام فأكل، وقيل: الداعي له ما به من الحاجة وليس ستنكر منه عليه السلام أن يقبل الأجر لإضرار الفقر والفاقة.
فقد أخرج الإمام أحمد عن مطرف بن الشخير قال أما والله لو كان عند نبي الله تعالى شيء ما تبع مذقتها ولكن حمله على ذلك الجهد، واستدل بعضهم على أن ذهابه عليه السلام رغبة بالجزاء بما روى عن عطاء بن السائب أنه عليه السلام رفع صوته بقوله: {رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] ليسمعها، ولذلك قيل: له ليجزيك الخ، وأجيب بأنه ليس بنص لاحتمال أنه إنما فعله ليكون ذريعة إلى استدعائه لا إلى استيفاء الأجر، ولا ضير فيما أرى أن يكون عليه السلام قد ذهب رغبة في سد جوعته وفي الاستظهار برأي الشيخ ومعرفته، ولا أقول أن الرغبة في سد الجوعة رغبة في استيفاء الأجر على عمل الآخرة أو مستلزمة لها، ودعوى أن الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أنه عليه السلام إنما أجاب للتبرك والاستظهار بالرأي لا تخلو عن خفاء، وعمله عليه السلام بقول امرأة لأنه من باب الرواية، ويعمل بقول الواحد حرًا كان أو عبدًا ذكرًا كان أو أنثى إذا كان كذلك، ومماشاته امرأة أجنبية مما لا بأس به في نظائر تلك الحال مع ذلك الاحتياط والتورع.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11